إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله - تعالى - فلا مُضِلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
أيها العائد من هناك، أغمض عينيك وارتحل إلى منى، إلى عرفات، إلى مكة وماء زمزم، التقط أنفاسك مهلاً.
فَيْضٌ من النشوات مُعَطَّر بعَبَق لا يُوصَف، هل مرَّت تلك الأيام حقًّا؟! ألم يكن حلمًا؟! هل... هل كنتَ هناك حقًّا؟!
تعب لذيذ لم يسفر عن وجهه إلا بعد أن وطئت الأقدام ثرى غير ذاك الثرى الحبيب، تتذكر ما رأيتَ وما سمعت، وما شممت وما أكلت، وما شربت، وما لمستْ يداك، تتذكر كل لحظة، كل همسة.
هل تذكر إذ صكَّت سمعَك هذه الأصوات الباكيات بشتَّى اللغات واللهجات، يا الله، كل هذه الجموع تبكي، تنتحب، تطلب المغفرة لذنوبها، لغات شتَّى كلها تردِّد بلسان يلهج ونفَس يلهث: لبيك اللهم لبيك، تخرج من كل فم، من كل قلب، يا ربِّ، قد جئناك فاغفر، لبيك اللهم لبيك، أعجمي وعربي، لبيك لا شريك لك لبيك، ودموع تجري من أعين تبكي؛ خشية ورغبة ورهبة ومحبة.
هل تذكر إذ يتصافحون ويتحدثون بالإشارات، ووجوههم مُفْعَمة بالابتسامات، وقد تخطَّت بسماتهم حاجز اللغات واللهجات؛ {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].
لبيك اللهم لبيك، يا ربي سبحانك، يا مَن وسع سمعه الأصوات كلها، سبحانك!
هل صدَّقتْ عيناك رؤية كل هذا الجمع؟! هل برقت عيناك بالدمع لما رأتْ مَن قد بلغ أرذل العمر أتوا على كل ضامر، من كل فجٍّ عميق؛ ليذكروا اسم الله: لبيك اللهم لبيك؟!
فجأةً تَوَحَّد المسلمون على تفرُّقهم في البلاد، تجمَّعوا على تنفيذ شعائر مُرَتَّبة، يدور الجميع في أفلاك منتظمة بالأمر الشرعي كما تدور الكواكب في أفلاكها بالأمر الكوني، الكل قد حُشِر إلى عرفات متضرِّعًا إلى ربه، ثم يفيضون إلى المشعر الحرام أفواجًا، ثم إلى منًى بين راجم وطائف في مكة، فقل لي بربك: هل يستطيع المدَّعون حشر العوام بهذا النظام؟!
حَشْرٌ أصغر، يقرع في عقلك ناقوس يذكِّرك بيوم الحساب، وعندما يدفعك هذا وينضغط صدرك في ظهر ذاك حتى لا تجد مكانًا في صدرك لهواء الشهيق، ويكثر العرق، ويسيل من كل جسدك، يهتزُّ بصرك، رحماك يا ربي رحماك، كيف أنجو يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار؟!
وحينما يندفع الجمع ليعبروا فجأة فيدفعوك وتموج الصفوف، تفكِّر: كيف تنجو من يومٍ يفرُّ فيه الجُنَاة من جهنم، فيدفعوك ويدفعوك، ويقتلك الهلع، وما أنت بميت؟! رحماك يا رب!
تحتضن بعينك أرجاء المكان في شوق، أحقًّا أتيت إلى المكان عينه الذي أتتْه أمُّنا هاجر عندما كان صحراء جرداء؟! هل أنت في نفس المكان الذي فيه سعتْ أمُّنا هاجر بين الجبلين؟! هل نرتوي اليوم من ماءٍ قد انبثق من تحت قدمَي ولدها الرضيع؟!
يا الله، سبحانك!
كم سمعنا أن في الحج لا يفرِّق المرء بين غني وفقير! فلا يمكنك أن تدرك ذلك إلا عندما ترى بعينك وتسمع بأذنك، فمن منى يوم التروية إلى عرفات إلى مزدلفة، ثم تعود إلى منى يوم النحر وأيام التشريق، لا مأوى لك إلا أرض الله الواسعة، فإن ارتَدَت امرأة عباءتها الفاخرة - وقد بذلتْ فيها من المال ما بذلتْ - فالأرض تتكفَّل بأن تجعلها تتعفَّر، وكل رجل في كفنه الأبيض قد تدثَّر، كلهم جاؤوك يا رب شُعْثًا غُبرًا، الله أكبر.
وكل مَن اعتاد أفخر العطور لا يستطيع إلا الماء طيبًا، فقد حُرِّم عليه الطيبُ مسًّا، فمِن أغلى المستحضرات التي بها يغتسل إلى مستحضرات ليس لها عطر يُشَمُّ، ومن واسع الحمامات وأفخم الترتيبات إلى أقرب خلاء وقليل من الماء، وكل مَن سكن أفخم البيوت صار فجأة مأواه التراب وغطاؤه السماء، جاؤوك يا رب شُعثًا غُبرًا، الله أكبر.
وبشوقٍ يعود الحجيج إلى خِيَم المعسكر الإيماني، مِنى الحبيبة أيام أكل وشرب وذكر لله، الله أكبر.
منى، وما أدراك ما منى؟! وادٍ ممتدٌّ في حبور بين الجبال الشامخات في عزة، لها عَبَقٌ خاص، تشعر فيها بالضآلة والخشوع، ها هنا وطئ الثرى خيرُ البشر منذ قرون، ها هنا رجَم الخليلُ شيطانَ الجن حتى ساخ في التراب.
منى، وما أدراك ما منى؟! تمشي فتنظر: عن يمينك جبال، وعن شمالك جبال، فتخشع، وتتذكر أنه لو شاء الله لأطبقها علينا، ولكن رحمته بنا أوسع، تشعر أنك صغير ضئيل، واحد من ملايين الحجيج قد أتى ها هنا راغبًا فيما عند الله راهبًا.
منى، وما أدراك ما منى؟! يا له من موقف تدمع فيه العيون، وأنت تجمع حصوات لها مواصفات، ثم تذهب لترجم، وتقف بعدها تدعو وتدعو متضرعًا ترجو الإجابة، تشعر برجفة في أوصالك، أأنا هنا حقًّا وصدقًا أقيم شعائر الله العظيم؟! لماذا أرجم؟ فيردُّ قلبك خاشعًا: ملة أبيكم إبراهيم وسنته، الله أكبر.
وأي طعام تأكله له مذاق مختلف، فأنت جائع، دائمًا جائع، قد بذلت جهدًا لم تعرفه من قبل، تأكل وتأكل وتتذكر، يا رب، هل هناك أناس جَوْعَى مثلما أنا جائع اليوم؟! هل هناك فقراء حقًّا يبذلون الجهد ثم لا تسعفهم اللقيمات ولا تسدُّ لهم جوعًا؟! وأنا هناك متنعِّم متفاخِر أبذِّر وألقي ما تبقَّى؟!
يا الله، فَرْقٌ ببن البِدَع والسنن، فَرْقٌ بين الكفر والإيمان، لماذا أمرك الله بتقبيل الحجر ومسح الركن ورمي الجمار؟ لماذا أمرك بالطواف حول البيت العتيق سبعة أشواط؟ {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
سبحانك، لك الخلق والأمر، وأنت الحكيم، فلكل أمر حكمة عَلِمَها مَن عَلِمَها وجَهِلَها مَن جَهِلَها، ومَن تعلم حكمة من حِكَم أفعال الباري، فليعلم أنه لم يدرك كلَّ الحِكَم، وكيف يحيط العبد الفقير بصفة العلي الخبير؟!
يا الله، شعائر قد افترضتها على عبيدك، ومَن يعظِّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، لا يفهم بعض حِكَم فرضك إلا مَن عايَن تنفيذ بعض أمرك، فمَن كان هناك رأى وسمع.
كل هؤلاء قد ترك بيته وأهله وزينة الحياة الدنيا وزهرتها، وجاؤوا ها هنا إلى المشقة والغبار وترك الافتخار، لماذا؟ جاؤوك يا ربِّ شُعْثًا غُبْرًا على كل ضامر من كل فجٍّ عميق، لبيك اللهم لبيك.
سارة بنت محمد حسن