الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين... وبعد:
فإن الله عز وجل شرع الأضحية توسعة على الناس يوم العيد وقد أمر الله أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام أن يذبح ابنه إسماعيل فاستجاب لأمر الله ولم يتردد فأنزل الله فداء له من السماء {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] ومنذ ذلك الوقت والناس ينحرون بهيمة الأنعام امتثالاً لأمر الله بإراقة الدماء لأنها من أفضل الطاعات والأضحية سنة مؤكدة، ويُكره تركها مع القدرة عليها وفضلها عظيم.
تعريفها ومعناها في اللغة والشرع
قال الجوهري: "قال الأصمعي فيها أربع لغات: أُضحيّة وإِضحيّة بضم الهمز وكسرها والجمع أضاحي، والثالثة ضحيّة والجمع ضحايا، والرابعة: أضحاه، والجمع أضحى كأرطأة وأرطى وبها سمي يوم الضحى". أهـ.
ذكره النووي في تحرير التنبيه، وقال القاضي: "سميت بذلك لأنها تفعل في الضحى وهو ارتفاع النهار".
والأضحية شرعاً: اسم لما يذبح من الإبل والبقر والغنم يوم النحر وأيام التشريق تقرباً إلى الله تعالى.
الحكمة من تشريعها
1 - التقرب إلى الله تعالى بها، إذ قال سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] والنسك هنا هو الذبح تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى.
2 - إحياء سنة إمام الموحدين إبراهيم الخليل عليه السلام إذ أوحى الله إليه أن يذبح ولده إسماعيل ثم فداه بكبش فذبحه بدلاً عنه، قال تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107].
3 - التوسعة على العيال يوم العيد.
4 - إشاعة الفرحة بين الفقراء والمساكين لما يتصدق عليهم منهم.
5 - شكر الله تعالى على ما سخر لنا من بهيمة الأنعام، قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:36-37].
حكمها: جمهور أهل العلم على أن الأضحية سنة مؤكدة، ويكره تركها مع القدرة عليها، والبعض قال: سنة واجبة على أهل كل بيت مسلم قدر أهله عليها، وذلك لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من كان ذبح قبل الصلاة فليعد» [متفق عليه].
فضلها: لم يرد حديث صحيح في فضل الأضحية سوى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها وإنما وردت أحاديث لا تخلو من مقال ولكن بعضها يعضد بعضاً ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله عز وجل من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها. وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً» [رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه].
وقوله صلى الله عليه وسلم وقد قالوا له: ما هذه الأضاحي؟ قال: «سنة أبيكم إبراهيم»، قالوا: ما لنا منها؟ قال: «بكل شعرة حسنة»، قالوا: فالصوف؟ قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة» [رواه ابن ماجه والترمذي، وحسنه].
الأحكام التي تتعلق بالأضحية
1 - ما يتجنبه من عزم على الأضحية: من دخلت عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي، فلا يأخذ من شعره، وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية وذلك لما روى عن مسلم في صحيحه عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره» [رواه مسلم] وفي رواية: «فلا يأخذن شعراً ولا يقلمن ظفراً» [مسلم] والحكمة في النهي: أن يبقي كامل الأجزاء ليعتق من النار، وقيل: التشبه بالمحرم. ذكره النووي. [مسلم: شرح النووي:13120].
مسألة: ما على من قطع الشعر وقلم الظفر؟
قال ابن قدامة رحمه الله: "فإنه يترك قطع الشعر وتقليم الأظافر فإن فعل استغفر الله تعالى ولا فدية فيه إجماعاً سواء فعله عمداً أو نسياناً". [المغني:13363].
2 - سِنُّها: أخرج مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذبحوا إلا مُسنّة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» [مسلم:1963] والمسنة من الأنعام هي الثنية.
وقال الإمام ابن القيّم في كتابه زاد المعاد 2/317: "وأمرهم أن يذبحوا الجَذَعَ من الضأن والثني مما سواه وهي المُسنة". أخرج البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ضحايا فصارت لعقبة جذعة، فقال: «ضح أنت بها». والجذع عند الحنفية والحنابلة: هو ما أتم ستة أشهر ونقل الترمذي عن وكيع أنه ابن ستة أشهر أو سبعة أشهر، وقال صاحب الهداية: والثني من الإبل: ما استكمل خمس سنين، ومن البقر والمعز: ما استكمل سنتين وطعن في الثالثة.
3 - سلامتها: لا يجزئ في الأضحية سوى السليمة من كل نقص في خلقتها، فلا يجزئ العوراء ولا العرجاء ولا العضباء (وهي مكسورة القرن من أصلها، أو مقطوعة الأذن من أصلها) ولا المريضة ولا العجفاء (وهي الهزيلة التي لا مخ فيها) وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعرجاء البيّن عرجها، والكسيرة التي لا تُنقي ـ يعني لا نَقي فيها ـ أي لا مخ في عظامها وهي الهزيلة العجفاء» [أحمد:4/284، 281، وأبو داود:2802].
4 - أفضلها: أفضل الأضحية ما كانت كبشاً أملح أقرن، إذ هذا هو الوصف الذي استحبه الرسول صلى الله عليه وسلم وضحى به كما أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «ضحى بكبشين أملحين أقرنين..» الحديث [البخاري:5558 ومسلم:1966] وفُسّر الأملح بأنه الأبيض الذي يخالطه سواد كما جاء عند مسلم 1967 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد..» الحديث [مسلم: شرح النووي 13105] قال النووي: "معناه أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود والله أعلم". أهـ.
ويسن استسمان الأضحية واستحسانها لقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. قال ابن عباس: "تعظيمها استسمانها واستعظامها واستحسانها". [الطبري، جامع البيان:17156].
بل إنه كلما زاد الثمن وغلا صار أفضل إذا كان يريد بذلك قربه سواء من الرقاب أو الأضاحي كما جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل أي الرقاب أفضل؟ فقال: «أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها» [البخاري:2518].
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: "كل ما عظمت رؤيته عند المرء كان أعظم لثواب الله إذا أخرجه لله". [صحيح ابن خزيمة:14291].
5 - وقت ذبحها: المتفق عليه أنه صباح العيد بعد الصلاة، فلا تجزئ قبله أبداً، فيذبحها بعد صلاته مع الإمام، وحينئذ تجزية بالإجماع كما ذكر ذلك الإمام النووي. وأخرج الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ضحى قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تمّ نسكه وأصاب سنة المسلمين» [مسلم:5/1961] بل جاء التأكيد منه كما في مسلم من حديث البراء بن عازب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فقال: «ولا يذبحن أحد حتى يصلي» [مسلم:5/1961] وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد: "إنه لم يكن يدع الأضحية وكان يضحي بكبشين وكان ينحرهما بعد صلاة العيد وأخبر أن من ذبح قبل الصلاة فليس من النسك في شيء، وإنما هو لحم قدّمه لأهله، هذا هو الذي دلت عليه سنته وهديه". أهـ. [زاد المعاد:2317].
6 - ما يستحب عند ذبحها: يستحب أن يوجهها إلى القبلة ويقول: ((وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين)). ثم إذا باشر الذبح أن يقول: ((باسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك)). والتسمية واجبة بالكتاب الكريم قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121].
قال الإمام ابن القيّم رحمه الله: "وكان من هديه أن يضحي بالمصلى، ذكره أبو داود عن جابر رضي الله عنه أنه شهد معه الأضحى بالمصلى فلما قضى خطبته نزل من منبره وأتى بكبش فذبحه بيده وقال: «بسم الله والله أكبر هذا عني وعمن لم يضح من أمتي» وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذبح وينحر بالمصلى". أهـ. [متفق عليه].
قال ابن بطال: "الذبح بالمصلى هو سنة للإمام خاصة عند مالك"، قال مالك فيما رواه ابن وهب: "إنما يفعل ذلك لئلا يذبح أحد قبله". زاد المهلب: "وليذبحوا بعده على يقين، وليتعلموا منه صفة الذبح". وعند مسلم [1967] من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه: «وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه» ثم قال: «باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد» ثم ضحى به، فيه دليل لاستحباب قول المضحي حال الذبح مع التسمية والتكبير: اللهم تقبل مني واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].
7 - الإحسان حتى في الذبح: قال ابن القيّم: "وأمر الناس إذا ذبحوا أن يحسنوا الذبح وإذا قتلوا أن يحسنوا القتلة"، كما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث شداد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحكم شفرته وليرح ذبيحته» [رواه مسلم].
وكان يضع قدمه على صفاحهما يعني صفحة عنق الذبيحة عند ذبحها لئلا تضطرب وهذه رحمة منه كما ذكر أنس وهو يشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يذبح، قال الإمام ابن حجر في الفتح: "واتفقوا على أن إضطجاعها يكون على الجانب الأيسر فيضع رجله على الجانب الأيمن ليكون أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين وإمساك رأسها باليسار". أهـ.
8 - صحة الوكالة فيها: يستحب أن يباشر المسلم أضحيته بنفسه كما فعل ، وإن أناب غيره في ذبحها جاز ذلك بلا حرج ولا خلاف بين أهل العلم في هذا.
9 - قسمتها المستحبة: يستحب أن تقسم الأضحية ثلاثاً: يأكل أهل البيت ثلثاً، ويتصدقون بالثلث، ويهدون لأصدقائهم ثلثاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: «كلوا وادخروا وتصدقوا» [مسلم:6/80] وإن لم يقسمها هذه القسمة جاز كأن يتصدق بها كلها أو يأكلها كلها أو يهديها كلها.
10 - أجرة جازرها من غيرها: لا يعطى الجازر أجرة عمله من الأضحية لقول علي رضي الله عنه: أمرني رسول الله أن أقوم على بدنة وأن أتصدق بلحومها وجلودها وجلالها، وأن لا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال: «نحن نعطيه من عندنا» [متفق عليه].
مسائل مهمة وفوائد من كلام الأئمة
مشروعية التضحية: وقد أجمع عليها المسلمون،
قال شيخ الإسلام: "والأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، فإذا كان له مال يريد التقرب به إلى الله كان له أن يضحي" .أهـ.
وقال الشيخ البسام: "وقد قرنها الله تعالى مع الصلاة في آيات القرآن الكريم منها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي.. } [الأنعام:162] وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] والأضحية التي تقع في ذلك اليوم العظيم، يوم النحر الأكبر فيها الصدقة على الفقراء والتوسعة عليهم" .أهـ.
قال الشيخ البسام: "الأصل في الأضحية أنها للأحياء، ويجوز أن تجعل صدقة عن الموتى، وفيها ثواب وأجر لهم، لكن يوجد خطأ في بعض البلاد أنهم لا يكادون يجعلونها إلا للموتى فقط، فكأنهم يظنون أن الأضحية خاصة للموتى، ولذا فإن الحي منهم يندر أن يضحي عن نفسه، فإذا كتب وصية أول ما يجعل فيها أضحية أو ضحايا، على حسب يُسره وعسره، ويندر أن يوصي الموصي بغير الأضحية وتقسيم الطعام في ليالي رمضان، وهذا راجع إلى تقصير أهل العلم الذين يكتبون وصاياهم، لا يذكرونهم ولا يعلمونهم أن الوصية ينبغي أن تكون في الأنفع من البر والإحسان والأضحية وإن كانت فضيلة وبراً وإحساناً إلا أنه يوجد بعض جهات من البر ربما تكون أحسن منها". أهـ.
قال شيخ الإسلام: "تجوز الأضحية عن الميت كما يجوز الحج عنه والصدقة عنه، وإن ضحى بشاة واحدة عنه وعن أهل بيته أجزأه ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد فإن الصحابة كانوا يفعلون ذلك". أهـ.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم ومن المسلمين في كل مكان وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
راجعها فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين - عضو الإفتاء - وقال: "قرأت هذه الصفحات المتعلقة بشرعية الأضحية وأحكامها فوجدتها صالحة موافقة حسب رأيي ونظرتي، والله الموفق".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.