كتبه/ أحمد الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فللدعوة إلى الله -عز وجل- فضل لا يُنكر، ولذة في النفوس لا يشعر بها إلا من جرَّبها وذاق حلاوتها؛ بالإضافة إلى نصوص الشرع الكثيرة التي جاءت إما آمرةً بها أو منوهةً بشأنها مبيِّنةً لفضائلَها، أو محذرةً من التخاذل في تبليغها.
فمن ذلك: قول الله -عز وجل-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران:110)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة:67)، وقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل:125).
كما أن في الدعوة فوائدًا جمة، منها: أنها طاعة لله، وإرضاءٌ له، وسلامةٌ من وعيده، وفيها إعزازٌ لدين الله، واقتداءٌ بأنبيائه ورسله، وإغاظةٌ لأعدائه من شياطين الجن والإنس، وإنقاذٌ لضحايا الجهل والتقليد الأعمى .
كما أنها سبب في زيادة العلم والإيمان ونزول الرحمة، ودفع البلاء ورفعه، وهي: سبب لمضاعفة الأعمال في الحياة وبعد الممات، وسبب للاجتماع والألفة، والتمكين في الأرض.
ومع أن هذه الفضائل معروفة ومشهورة، إلا أن المشكلة تكمن في تصور بعض طلاب العلم عن رمضان أنه موسم مقصور على العبادة فقط، فربما اتجه البعض إلى التوقف عن القيام بأية مهام دعوية خلال هذا الشهر، ويفضل أن يتفرغ تمامًا للعبادة بكل أنواعها: "صلاة - قراءة قرآن - قيام ليل - تهجد - أذكار -... "، وذلك استنادًا إلى أن شهر رمضان شهرٌ للتعبد والتزود الإيماني، والذي يدفع لمزيد من الحركة في مجال الدعوة بعد انتهاء هذا الشهر -بإذن الله-؛ لذا فدفعًا لهذا التوهم نحاول من خلال السطور القادمة أن نقيم هذا الفهم في ضوء الكتاب والسنة.
1- خصوصية الفضل والأجر لجميع أعمال الخير في رمضان:
لا يخفى ما لشهر رمضان المبارك من خصوصية في الأجر وفضل على بقية الشهور، (مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا)، كما أن الصدقة فيه أفضل من غيره، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن"، فالرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجودُ بالخير من الريح المرسَلة. والعمرة فيه تعدل حجة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففي الحديث: (عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي) (متفق عليه).
فإذا كانت الدعوة إلى الله آكدة على أهل العلم في غير رمضان فإنها في رمضان تتأكد أكثر، وإذا كان أجر القيام بمهام الدعوة إلى الله في غير رمضان كبير فإن أجرها في رمضان أكبر وأفضل.
2- مزايا رمضان الدعوية:
فما أن يأتي شهر رمضان، إلا وتُقبل قلوب العباد على الله، فيهرعون إلى بيوت الله -عز وجل-، فيصلون ويذكرون الله ويتلون القرآن، ويسألون عما يجهلون من أمور دينهم، هنا لا بد أن يجدوا من يرد على تساؤلاتهم، ويرشدهم في أمور دينهم، ومن يكون هؤلاء إلا الدعاة إلى الله الذين منَّ الله عليهم؛ فزادهم بسطة في العلم والفقه؟!
لذا، فإن الأجواء الإيمانية التي يكون عليها الناس في رمضان، وهذا الإقبال منقطع النظير على الطاعة والعبادة، هي فرصة بكل المقاييس يجب على الدعاة إلى الله ألا يضيعوها، بل يجب عليهم أن يهبوا لاستثمارها بكل الوسائل المتاحة والممكنة، وثمة جوانب ومجالات عدة تُفتح أمام الدعاة في رمضان لا تفتح أمامهم في غيره، منها:
1- فالقلوب تصبح أكثر قربًا إلى الله -تبارك وتعالى- منها في غير رمضان؛ ولذا نرى الرجل الفاسق المعرض، المسارع في الكبائر تتغير أحواله في رمضان.
2- وفي رمضان يكثر مرتادو المساجد أكثر مما في غيره.
3- وفي رمضان يصبح الناس أكثر إصغاءً وإقبالاً على الموعظة منهم في غيره.
4- وفي رمضان يقبل الناس على إخراج الزكوات والصدقات فيكون ذلك فرصة الدعاة في حث الناس وتوجيه الأموال للمصارف المجدية المفيدة.
5- ويتيح قدوم المرأة للمسجد في رمضان فرصة لخطـاب شريحة واسعة لم يكن يتيسر خطابها قبل ذلك؛ فثمة فئة واسعة من النساء لا تأتي إلى المسجد إلا في صلاة التراويح في رمضان.
6- الغالب على الناس أنهم يهتمون بالصيام ولا يفرطون فيه، حتى مع تفريط بعضهم في الصلاة، والداعية يستفيد من ذلك في أن الصيام يكشف عن جوانب مهمة في النفوس من القدرة على الامتثال، والقدرة على ضبط النفس والسيطرة على شهواتها، وغالبًا ما تكثر أسئلة الناس عن أحكام الصيام، وبالتالي يتخذ الداعي إلى الله هذه النقاط كمدخل للكلام على جوانب التقصير الأخرى.
3- حال السلف مع دروس العلم في رمضان:
وربما من الأسباب التي تجعل البعض يسلك مسلك تفضيل اعتزال العمل الدعوي في رمضان ما أُثر عن بعض السلف أنهم كانوا يتوقفون عن الدرس والتعليم، وينصرفون إلى القرآن، وربما رأى البعض أن سلوك المشايخ المعاصرين هو تعليق الدروس عند دخول رمضان؛ فيظن أن هذا يصب في مصلحة هذا الرأي!
والحاصل: أنه ليس فيما سبق دليل على ذلك؛ فبالنسبة إلى حال السلف فلم تكن طريقتهم واحدة في إيقاف حلق الدرس، بل كان الكثير منهم يستمرون فيها كما هي؛ فعن عبد الله بن محمد بن اللبان أنه صلى بالناس صلاة التراويح في جميع الشهر، وكان إذا فرغ من صلاته بالناس في كل ليلة لا يزال قائمًا في المسجد يصلي حتى يطلع الفجر، فإذا صلى الفجر دارس أصحابه.
وعن أبي الفرج محمد بن عمران الخلال قال: كان ورد القاضي أبي بكر محمد بن الطيب في كل ليلة عشرين ترويحة، ما يتركها في حضر ولا سفر، قال: وكان كل ليلة إذا صلى العشاء وقضى ورده، وضع الدواة بين يديه وكتب خمسًا وثلاثين ورقة تصنيفًا من حفظه، فإذا صلى الفجر دفع إلى بعض أصحابه ما صنفه في ليلته، وأمره بقراءته عليه وأملى عليه الزيادات فيه.
وبالتالي فغالب الظن فيمن كان يتوقف منهم عن الدرس هو الانصراف لأعمال أخرى أرجى وأهم، أما ما يتم في زماننا من إيقاف الدروس العامة في المساجد؛ فهذا لإفساح الطريق أمام دروس أخرى أكثر مناسبة وملائمة لشهر رمضان من ناحية، وحتى يتسنى مخاطبة الوافدين إلى المساجد في رمضان بالطريقة والمادة التي هم في حاجة إليها أكثر من غيرها من الدروس النظامية، والتي غالبًا ما تخاطب شريحة معينة من الناس؛ بالإضافة إلى ارتباطها بمنهج أو كتاب يصعب على غير المؤهلين مجاراة الدرس أو الاستفادة منه.
4- التوازن المطلوب:
لا شك أن الداعية إلى الله هو أحوج الناس إلى التزود بوقود الإيمان؛ لكي يستطيع مواصلة السير في هذا الطريق الطويل، كما أن رمضان فرصة عظيمة لكي يقف الداعية مع نفسه وقفة يقيم فيها جهده، ويراجع فيها وسائله وأدواته، وأيضًا يغذي فيها عقله وقلبه بما يقرأ ويفعل من صنوف البر والخير، لكن هذا لا يعني أن ينعزل عن الناس وينزوي مع نفسه بحيث لا يراه أحد، ولا يتحمل عبء عمل أو يساهم في سد ثغرة.
والمطلوب من الداعية أن يكون متوازنًا؛ فلا يهمل نفسه فيحرمها من التزود بالإيمان، ولا يهمل دعوته فيحرمها الأجر بعزلها عن الناس وتركهم بلا نصيحة أو توجيه، ولكن عليه أن يوطن نفسه، فينظم أوقاته، ويرتب أعماله، فيعطي لهذا حقه، ولهذا حقه، دون أن يجني على نفسه، ودون أن يقصر في حقوق إخوانه ودعوته.
5- أهم المنطلقات الدعوية في رمضان:
1- التصالح مع الذات: وذلك لأن مفتاح التوفيق في أي عمل هو حسن اتصال قلب العبد بربه، وعلى قدر نجاح هذا الاتصال ودوامه على قدر ما يأتي العون والمدد من الله -تعالى-، والداعي إلى الله أمامه مهمة شاقة ألا وهي محاولة فتح قلوب العباد وتهيئتها لتلقي العلم وامتثال الشرع؛ فكيف يتأتي له ذلك وقلبه في جفاء وبُعد، بل أنى له من الطاقة النفسية التي تؤهله لدعوة الآخرين والتأثير فيهم؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه؟!
2- غرس الاهتمام بالقرآن وتعظيمه في القلوب:
ولا عجب في ذلك... فرمضان هو شهر القرآن؛ قال الله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة:185).
وهذا الملمح يجب أن يكون هدفـًا إستراتيجيًا بالنسبة إلى الداعي؛ لأن الهداية الحقيقية للناس لا تتم إلا بربطهم بمصدر هذه الهداية الربانية -القرآن الكريم-، هذا القرآن الذي بفضله بقيت هذه الأمة، وبسببه بوركت، وهو محفوظ لها من ربها، لتتكفل هي بالعمل به، وصبغ الحياة به، وهذا دور الداعية الأول الذي ينبغي أن يبرز له في هذا الشهر؛ لأن شهرًا أنزل فيه القرآن لجدير بأن يكون للقرآن فيه نصيب أوّلي.
3- إحياء معاني التقوى في النفوس:
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)، ما أجمل أن يستشعر الناس معاني التقوى فتسري فيهم كسريان الدم في عروقهم، هذه المعاني هي التي تحقق للمؤمنين النجاة في الآخرة، وتضمن التماسك في سفينة المجتمع الذي يعيشون فيه، ولا يكونن طرح الداعية طرحًا وعظيّا حماسيّا فقط، وإنما لا غني عن الطرح العميق، ومحاولة فهم سنن الله -تعالى- التي بثها كسنن ثابتة لا تتغير، ومع توضيح هذه السنن، يكون طرح الأسس الهامة لنتائج "التقوى"، كمعايير للقياس، فمن ذلك:
1- أن التقوى سبب لنزول البركات وسعة الأرزاق، قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) (الأعراف:96).
2- أن المعيار في تقييم الناس هو التقوى، وهذا هو الفرق الرئيس الذي تذوب معه الألوان والانتماءات الأخرى، وهو أساس التعارف، وأساس التقديم والتأخير، قال -تعالى-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:13).
3- أن الزاد في الحركة بهذا الدين الذي يعطي الإنسان القدرة على السبق والفوز والمسارعة، هي: التقوى؛ قال الله -تعالى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة:197).
4- إحياء مفهوم وفقه التغيير للنفس والمجتمع:
فالله -عز وجل- قد تكفل في هذا الشهر بتشريع الصوم الذي يكتم جانب الشهوات في الإنسان؛ ليكون منه مزيد من المحاكاة التي يقوم عليها فقه الصوم في نفس المسلم، فيكون التغيير.
وربنا -سبحانه- غيَّر سننًا كونية في رمضان؛ ففتح لنا أبواب الجنة! وأغلق أبواب النار! وصفّد لنا الشياطين! وليس هذا إلا تغييرًا في رمضان، ونفحات من رمضان... لكن تبقي السنة الكونية: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11)، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال:53).
لذلك لا بد للداعية من أن يستثير الإيجابية في نفس المسلم، خصوصًا أنه في عبادة هي كلها لله -تعالى-؛ قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) (متفق عليه)، فهذا سيكون له أثر كبير في تقوية العزم نحو التغيير.
5- إحياء فقه الأمل:
ففي شهر رمضان المبارك العديد من الأحداث الهامة في تاريخ الأمة؛ ففيه: "بدر الكبرى"، وفيه: "فتح مكة"، وفيه: "فتح الأندلس"، وفيه: "عين جالوت"، وفيه: "العاشر من رمضان".
والداعية الفقيه لا يسرد هذه الأحداث سردًا قصصيًا، يداعب به نفوس الناس، ويجعلهم يعيشون مع لذة التاريخ وأمجاده، كلا، بل يربط بين حال المسلمين وبين النصر والهزيمة؛ ليكون هذا مرشدًا لهم في واقعهم المعاصر؛ فإحياء الأمل في النفوس مع استمرار المحاولة الجادة في تغيير الواقع مطلب مهم؛ حتى لا تصاب النفوس باليأس والإحباط من جرَّاء الانكسارات المتتالية للأمة في وقتها المعاصر.