كتبه/ جمال عبد الرافع
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمواسم الطاعة ومن أعظمها رمضان سريعة الانقضاء، فلا يلبث رمضان قادمًا إلا وينادي بالرحيل، وكم من رمضان مر علينا وأثـَّر في نفوسنا رحيله؟!
بعد رمضان يشعر كل منا بالأسى والحسرة؛ لفراق رمضان، يشعر بالتقصير وضعفه في الطاعة، ويتمنى أن لو لم ينتهِ رمضان! فكان لابد من وقفة؛ لنحصي الاستفادة المطلوبة من رمضان قبل الابتداء حتى لا نندم عند الانتهاء.
ولابد أن يتعلم المسلم مما مر به من مواقف وأحداث، ونتاج التعلم يصرخ في نفوسنا: إنه لابد من الاستعداد لرمضان بقلب حي واجتهاد تام، والأمر مداره -والله أعلم- على ذهاب قسوة القلب؛ فالقلب هو الأساس في الأعمال: (أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ)(متفق عليه)، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن خطورة أمر القلب بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ)(رواه مسلم)، فإذا كان للقلب هذه المكانة العظمى، فتركه وإهماله وعدم العناية: ضعفٌ في العقل، وقلة في الفهم!
ومما يدل على أهمية القلب القصوى أن:
- القلب هو وعاء الإيمان أو الكفر.
- والقلب هو وعاء الإخلاص أو النفاق والرياء.
- وهو وعاء ذكر الله أو الغفلة عنه.
- وهو وعاء السعادة أو الشقاء.
- وهو وعاء التقوى أو الجرأة على حرمات الله.
- وهو وعاء الرحمة أو القسوة والغلظة.
- وهو وعاء الشجاعة أو الجبن.
- وهو وعاء العلم أو الجهل.
- وهو وعاء الحب والبغض.
- وهو وعاء التواضع أو الكبر.
- وهو وعاء الاطمئنان أو القلق والاضطراب.
كل ذلك في القلب... ألا يدل هذا كله على خطورة أمر القلب وأهميته؟!
وقد فصل د/ صلاح سلطان في كتابه "الوسائل العملية لإصلاح قسوة القلب" وسائل إصلاح القلوب تخلية وتحلية، فقال -واليك ملخصًا لما قال-:
"إذا أردنا صلاحًا للقلب، وذهابًا لقسوته فلابد من خطوتين:
1- التخلية.
2- التحلية
ويقصد بـ"التخلية": إزالة ما في القلب من آثام وذنوب، ومعاصٍ، وشهوات، وشبهات، وتنقية التربة من الحشرات والحشائش الضارة حتى تصلح أرض القلب لما يزرع فيه من أعمال صالحة، وأخلاق فاضلة.
وأول خطوات التخلية هي: "التوبة"، والتوبة ليس كلامًا، ولكن لابد من اجتماع القلب والجوارح على إرادتها؛ لتؤثر في النفس صلاحًا وتغيرًا.
ولتحقيق التوبة لابد من -وباختصار شديد-:
1- نسيان الذنب إن كان يهيج الخواطر للعودة للمعصية.
2- هجر أماكن المعصية.
3- تغيير الرفقة والالتصاق بالصالحين.
4- الانشغال الدائم بما ينفع.
5- قصر الأمل ودوام ذكر الموت.
6- تعويد النفس على فعل الحسنات والإكثار منها.
7- عدم استثقال التوبة واستصعاب الالتزام.
8- دفع التسويف.
9- عدم الاعتذار عن التوبة والتعلل والبحث عن المبررات.
10- عدم الاغترار بستر الله وتوالي نعمه.
11- الصبر على الابتلاءات التي تقع على التائب بعد التوبة.
ثم تأتي الخطوة الثانية وهي "التحلية": ويقصد بها أن تحل الأعمال الصالحة في القلب محل الأعمال السيئة، والقلب بعد التوبة لا زالت به بعض جراحات المعاصي ويـُخشى عليه؛ ولذا كانت أول خطوات التحلية: "المشارطة"، والمشارطة: حوار داخلي بين الإنسان ونفسه معاهدًا ربه -سبحانه وتعالى- على أداء شعائر وعبادات، ومناسك، وأخلاقيات يلتزم بها العبد حتى الممات.
والمشارطة تكون مع التدرج في الأعمال، كما لو عاهد نفسه على أداء الصلوات الخمس أول وقتها في جماعة؛ ليحقق الحديث، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: (الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا). قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: (ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ.... ) (متفق عليه).
فإذا واظب على الفرائض فلينتقل إلى النوافل؛ ليحقق حديث: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)(رواه البخارى
ثم ينتقل إلى تذوق حلاوة الصلاة بالليل؛ فيشترط على نفسه أن يصلي مرة في الأسبوع قيامًا في جوف الليل، ثم يتدرج حتى يكون في كل ليلة.
ثم يشترط على نفسه ألا يخرج من صلاة فريضة أو نافلة حتى يخشع قلبه، وتدمع عينه.
وهكذا يمكن للعبد أن يتدرج في سائر العبادات، مثلاً: من كان منقطعًا عن القرآن يتخذ قراره ويشترط على نفسه أن يقرأه؛ فيبدأ بنصف جزء قراءة يوميًا فهي لا تحتاج منه أكثر من ربع ساعة تقربه إلى ربه، وتجلي الصدأ عن قلبه، وتبعث فيه الراحة والانشراح.
فإذا ذاق حلاوة القرآن رفع المشارطة من نصف جزء إلى جزء كامل يوميًا، ثم يتدرج ليختمه في كل أسبوع مرة.
ثم لينتقل إلى مقام التعلم والتعليم؛ ففي الحديث: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ) (رواه البخاري)، ثم إذا أراد مزيدًا من الارتقاء فليعش مع القرآن آية آية، وسورة سورة، متفكرًا ومتدبرًا، وعاملاً بما فيه.
من كان قاطعًا لأحد أبويه أو لأحد من أقاربه، أو أرحامه، أو جيرانه؛ فيتوب إلى الله -تعالى-، ويشارط نفسه أن يكون أبر الناس بأبويه، وأوصلهم لأرحامه وأكرمهم لجيرانه، وأوفاهم لأصدقائه، فيقرر أن يقوي هذه الصلات بالسؤال، والهدية، والزيارة، والمشاركة في الأفراح والأتراح.
فإذا وجد صدودًا وإعراضًا من بعضهم، وربما أذى من بعضهم الآخر؛ فليتذكر أن الله -تعالى- يريد أن يصطفيه؛ لينتقل من منزلة أصحاب الفرض إلى أهل الفضل، فيشارط نفسه أن يظل بارًا وصولاً مهما استدرجه الشيطان بأي أذى أو قطيعة من أهله وأصدقائه.
من تعود على قراءة الكتب والاستماع إلى الدروس، والخطب، والمحاضرات حتى صار مخزنـًا للمعلومات، ثم تطلعت نفسه أن يترك كسله؛ لينتقل إلى منازل الدعاة المصطفين الأخيار الذين قال الله -تعالى- فيهم: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(فصلت:33)، فاتخذ هو أو هي القرار المصيري فينتقل من التعلم إلى التعليم، ومن جمع المعلومات إلى الإفضاء بها لمن حوله سواء بنصيحة أو حوار أو كلمة في مجلس، ولا ينتظر أن يأتيه الناس، بل يأتي مجالسهم ويشترط على نفسه أن يبلغ كل ما علمه، فإن عجز لسانه عن الفصاحة والبيان فلا أقل من أن يتبرع بمال ينشر به علمًا، أو يساعد عالمًا في نشر علمه، فيكون قد بلـَّغ بنفسه أو بغيره.
هذه المشارطة جد ضرورية، وإلا ذهب الإيمان كله ولم تبقَ منه حبة خردل؛ لحديث: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)(رواه مسلم)، إلى غير ذلك مما يرى أن حياته تحتاج إلى مشارطة فيه، لكن هذه المشارطة تتحول إلى رغبات وأمان وأحلام ما لم تكن مشفوعة بمجاهدة للنفس؛ تحملها على المكارم حملاً، وتردعها عن السفاسف ردعًا.
إذاً فالمجاهدة: هي حمل النفس على أداء الواجبات، والتزام المكارم والمروءات، وترك المحرمات، والترفع عن السفاسف والمكروهات؛ قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(العنكبوت:69).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "لا يكون العبد ربانيـًا إلا بالمجاهدة".
ولمجاهدة النفس قواعد:
1- إحياء حب الله -تعالى- في القلب حتى يكون حبه أرقى من حب النفس، والأهل، والمال، والولد، وذلك بالإكثار من النظر في الكون المنظور، والكتاب المسطور، ودوام الذكر والتلذذ بصلاة الليل، وصيام النهار.
2- إحياء الخوف من الله -تعالى- بمطالعة مصارع الظالمين ومآلات المفسدين، ويتذكر الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والحشر وأناته، والصراط وسقطاته والنار ولهيبها، وجهنم وسعيرها.
3- قوة الإرادة والعزيمة على مواجهة النفس بـ "الخوف والرجاء"، و"الرهبة والرغبة"، واليقين أن العبد مهما كان ضعفه إذا لجأ إلى ربه واستعان به أعانه.
وعليه:
فإذا كان من طبع المسلم أو المسلمة سرعة الغضب، وبطء العودة فيجب أن يلاحظ نفسه ويتذكر أن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، فإذا انفلتت نفسه في غضبه عالجها بالصيام والقيام، وعاقبها بالحرمان.
من كان كثير الكلام بطبعه فيجب أن تأتي عليه فترات يجاهد نفسه بحسن الاستماع، وقلة الكلام، وضبط اللسان، وطول الخلوة؛ فهي تعين على الصمت إلا من ذكر الله -تعالى-، أو تفكر في آلائه.
هناك إخوة وأخوات لا يحبون القراءة، ويملون من قراءة فصل في كتاب، وهؤلاء يجب أن يجاهدوا أنفسهم بالبدء في قراءة منهجية بدلاً من القراءة العشوائية لوريقات مبعثرة! فيستكملون بعض الكتب الصغيرة، ثم يتجهون إلى الكتب الكبيرة.
وهكذا لنجعل رمضان نقطة للانطلاق والتغير؛ حتى لا نقف موقف حسرة بعد رمضان، ونردد: مضى رمضان!!