كتبه/ أحمد شكري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن المسلم الملتزم يتعامل مع رمضان على أنه مسألة حياة أو موت بالنسبة له، وذلك أن رمضان يعتبر محطة الشحن والتزود بالوقود الذي يسير به الملتزم طوال عام كامل، فإما أن يتزود بما يكفيه وإلا سيقف، ولذلك فهو يتعامل مع العبادات والطاعات في رمضان بحساسية شديدة، فهو يعلم أن رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب. وذلك لوجود عوائق تحول بين القلب وبين الاستفادة من هذه الطاعات والعبادات، ومن هذه العوائق أن يوسع الإنسان على نفسه في المباحات من الطعام والنوم والمخالطة، وذلك أن الله -عز وجل- من رحمته جعل قلب ابن أدم أسرع شيء وأشده حساسية وتأثراً بما حوله حتى يتفاعل مع المواعظ والآيات المبثوثة فيما حوله، ولكن ذلك يستدعي أن يحوط قلبه ويحميه من المؤثرات الضارة حتى لا يتشوش عليه قلبه.
ولذلك فإن مجرد الزيادة في قدر الطعام عن الحاجة له أثره الواضح في حرمان الإنسان من الخشوع والاستفادة من العبادات والطاعات، وقد قيل: إذا امتلأت المعدة غابت الفكرة.
ومن العجيب أن تكون كثرة الأكل عائقاً في رمضان الذي هو شهر الصيام وشهر التحكم في شهوة البطن، فيضيع على الإنسان خشوعه في صلاة العشاء والتراويح بسبب ثقل بطنه من طعام الإفطار، ثم يضيع علية خشوعه في صلاة الفجر وحضور ذهنه في أذكار الصباح والجلسة بعد الفجر إلى الشروق بسبب ثقل بطنه من طعام السحور، وأنى لمثل هذا أن يحصِّل ثمرة الصيام؟!
فإذا كانت أظهر الفوائد من الصيام هي التحكم في شهوة البطن، فإن الصائم الذي يفقد التحكم في شهوة بطنه على مائدة الإفطار يكون قد ضيَّع على نفسه هذه الفائدة.
والضابط في ذلك كله هو قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (ما ملأ ابن أدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن أدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه).
وتأمل ملياً في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فإن كان لابد فاعلاً)، فإن فيه إشارة واضحة إلى أن هذا ليس هو الأصل، بل الأصل أن يكتفي فقط بمجرد ما يقيم صلبه.
ولا تستهن بهذه النصيحة فإن لها أثرًا عظيماً في صلاح القلب، قال إبراهيم ابن أدهم: "من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان".
ولا تنس أن الذى أخرج آدم من الجنة هو أكلة من الشجرة، كذلك قد يخرج الإنسان من جنة رمضان وما فيه من الذكر والدعاء وحضور القلب توسعة في الاستجابة لشهوة البطن.
فضول النوم
ومن فضول المباحات التي تعوق الإنسان عن الاستفادة من مواسم الطاعة فضول النوم، فإنها تميت القلب، وتثقل البدن، وتضيع الوقت.
وفى كثرة النوم ضياع العمر الذي هو أنفس الجواهر، وهو رأس مال العبد الذي يتجر فيه، ولذلك قيل: "النوم موت".
فإذا كان هذا مما ينبغي مراعاته طوال العام فإن العناية به ومراعاته في رمضان آكد وأولى، ولذلك فإن من المهام الدعوية المتأكدة في رمضان تحذير الشباب من العادات السيئة المنتشرة بينهم، فإن كثيراُ منهم يقضي ليل رمضان في السهر أمام وسائل الإعلام الفاسدة المفسدة، أو في التسكع في الطرقات، ثم ينام طوال النهار، وأنى لمثل هذا أن يستفيد من رمضان؟!
فضول المخالطة
صنف طبيب القلوب البارع ابن القيم -رحمه لله - فضول المخالطة ضمن أهم أخطر أسباب قسوة القلب، وشبه القلب بالمرآة الصافية التي ما إن يقترب منها الناس ويتنفسون أمامها حتى تتكاثف عليها الأبخرة فيزول صفاءها، فإذا كان رمضان هو شهر إصلاح القلب وتصفيته فإن من العوائق عن الاستفادة منه كثرة المخالطة.
ولذلك شرع الاعتكاف في آخره حتى يتم للإنسان الخلو بالنفس، ولذلك من أعجب الظواهر أن يتحول الاعتكاف عند كثير من الإخوة إلى ما يشبه معسكرات الشباب، تجدهم قد انقسموا مجموعات يتجاذبون أطراف الحديث، بل وتسمع منهم الضحكات العالية مما يتنافى مع آداب المسجد،ـ بل قد يرقى أو ينحط لأن يكون لوناً من ألوان الصد عن سبيل الله إذا كان فيه تشويشاً على المعتكفين، أو تشويهاً لصورتهم أمام العامة.
وأخطر من ذلك وأخطر ما يحدث في صلاة الليل بين ركعات القيام أن تسمع همسات جانبية ليست ذكراً لله، ولا ابتهالاً في الدعاء، ولا اجتهاداً في الاستغفار، ولكنها غمزات ولمزات بين اثنين يزعمان أنها أخوان متحابان في الله، ولا شك أن هذه العلاقة بينهما تضرهما جميعاً؛ فإنها تشتت ما اجتمع في قلبيهما من معاني الإيمان.
وهنا ينبغي التنبيه للأتي:
أولا: اجتهد في تحقيق المعادلة الصعبة في الاعتكاف في الجمع بين اللين والرفق، وحسن المعاشرة وتحمل الأذى، والاجتهاد في الدعوة إلى الله -عز وجل-، ومع كل ذلك الحزم في المحافظة على الوقت، وتحصيل المعنى الأصلي من الاعتكاف وهو الخلوة.
ثانيا: ليس معنى التحذير من فضول المخالطة أن نعتزل الناس، ونقطع أرحامنا، بل الواجب أن نصل الرحم فإنه من أعظم، وأجلِّ العبادات، وأنفعها للإنسان في الدنيا والآخرة، ولكن أن نحذر من المخالفات الشرعية من الخلوة والاختلاط، والغيبة النميمة، وتضييع الوقت، ولا نجاة من كل ذلك إلا بأن نستثمر وقت الزيارة في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.